-->

12‏/12‏/2011

بحث وموضوع حول اهم المحطات التي قطعها تطور النظام القضائي المغربي






تطور النظام القضائي المغربي 
في المادة الادارية (1913-1993) سفيان الادريسي طوران و السعيد بوصيف
تقديم :
يعتبر القضاء أيا كان نوعه إداريا أو عاديا، أهم ما يميز الدولة المعاصرة المرتكزة على مبادئ الديمقراطية والعدالة، فالقضاء هو سلطة قائمة الذات سواء في النظم التي تأخذ بوحدة القضاء أو في الأنظمة التي تأخذ بنظام القضاء المتخصص، بحيث يلعب القضاء دورا كبيرا في التوفيق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة في حالة وجود نزاع من نوع متميز (نزاع يخضع لقواعد القانون العام). كما يعمل على تسوية النزاعات وذلك بتحقيقه للعدالة القانونية بين الأطراف المتساوية الحقوق والواجبات في العلاقة القانونية (نزاع يخضع لقواعد القانون الخاص).
من جانب آخر يمكن القول أن القضاء الإداري يعد من أهم الدعامات التي ترتكز عليها الدول الديمقراطية لرفع الحيف عن مواطنيها في ما قد يصدر عن الإدارة أو الدولة في حقهم من شطط في استعمال السلطة.
كما يهتم القضاء الإداري في جوهره بإعطاء الحلول للمنازعات الإدارية التي تنشأ بين الإدارة والخواص أو الإدارات العمومية فيما بينها.
ومن الناحية التاريخية يرتبط القانون والقضاء الإداريين في نشأتهما وتطورهما بالمنظومة القضائية والقانونية الفرنسية، حيث شكل حكم بلانكو النواة الأولى لتمييز المنازعات الإدارية عن المنازعات المدنية.
وبالنسبة للمغرب فقد عرف بدوره مجموعة من التطورات على صعيد نظامه القضائي إذ عرف ثلاث محطات أساسية بدء بفترة ما قبل الحماية التي ساد فيها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في مختلف مناحي الحياة، حيث كانت (الإدارة) في تلك المرحلة تقوم بوظائف تشريعية وتنفيذية وقضائية معا، في غياب تام لمبدأ فصل السلط، ولم يكن لأحد أن يطعن في تصرفاتها أو أن يتناولها بالنقد نظرا لارتباطها بشخص السلطان وكل انتقاد لها يعد بمثابة انتقادا له، إلا أنه ومن الناحية العملية كانت هناك مجموعة من الوسائل يلجأ إليها كل من ألحقه جور من عمال الإيالة (المملكة) وفي هذه الحالة فإذا ما أصاب شخص حيف من الإدارة يجوز له أن يتظلم من ذلك إلى وزير الشكايات الذي يتولى بدوره تقديمها إلى السلطان قصد إرجاع الحق إلى صاحبه.
أما في عهد الحماية التي فرضت على المغرب بموجب معاهدة فاس 1912 فقد سعى المستعمر الفرنسي إلى إدخال مجموعة الإصلاحات القضائية والقانونية خدمة لمصالحه الاستعمارية.
وقد كان ظهير 12 غشت 1913 إحدى أهم الركائز لإرساء نظام قضائي بمفهومه الحديث، إذ يعد هذا الأخير النواة الأولى لنشأة القضاء الإداري في المغرب، حيث جاء ظهير 1913 في مادته الثامنة بمجموعة من المبادئ أسست لما يمكن تسميته بالقانون الإداري أو القضاء الإداري.
أما في ما يخص فترة الاستقلال فقد سعى المغرب إلى تطوير نظامه القضائي ليتماشى والمتغيرات الجديدة التي طبعت مرحلة الاستقلال. حيث تم إنشاء المجلس الأعلى سنة 1957 وقضاء الإلغاء ليلي ذلك عدة إصلاحات أفضت إلى إحداث محاكم إدارية سنة 1993 ومحاكم الاستئناف الإدارية سنة 2006 متخصصة في المنازعات والقضايا الإدارية الصرفة.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نتساءل عن مختلف المراحل والتطورات التي قطعها القضاء الإداري منذ 1913 إلى حدود سنة 1993، مركزين في ذلك على أم المحطات وأهم السمات الأساسية التي أسست للتطور التاريخي لنشأة القضاء الإداري بالمغرب.
وعليه سنتطرق في هذا الموضوع لمرحلتين أساسيتين وهما مرحلة الحماية ومرحلة الاستقلال وفق التصميم التالي:

مرحلة الحماية 1913-1956
I-نشأة القضاء الإداري بالمغرب
1-الإصلاحات القضائية لظهير 1913 والمبادئ التي تضمنها
2-السمات العامة للقضاء الإداري المغربي في عهد الحماية
*مرحلة الاستقلال 1957-1993
II-تطور القضاء الإداري في عهد الاستقلال 
1-إنشاء المجلس الأعلى
أ-التأليف والتنظيم
ب-الاختصاصات
2-إحداث قضاء الإلغاء والتطورات التي لحقته
أ-أحداث قضاء الإلغاء 
ب-التطورات القضائية المؤرخة في 1965 و1974 وانعكاسها على القضاء الإداري المغربي

تميزت المنظومة القانونية التي عرفها المغرب في عهد الحماية، بالعديد من الخصائص والتطورات التي ساهمت في إرساء نظام قضائي إداري متميز، مستوحى من حيث مبادئه، من النظام القضائي الفرنسي، ووضعه في قالب محلي جديد يتماشى والطبيعة المؤسساتية للمغرب.
I-نشأة القضاء الإداري بالمغرب
قبل أن نتطرق إلى نشأة القضاء الإداري بالمغرب، يجدر بنا أن نقف أولا عند مفهوم القضاء الإداري، الذي يعني في جوهره إعطاء الحلول للمناعات الإدارية، أي المنازعات التي تنشأ بين السلطات الإدارية العامة فيما بينها، أو بين هذه الأخيرة والخواص( ).
وقد عرف المغرب القضاء الإداري بشكله العصري إبان فرض الحماية، بموجب معاهدة فاس المؤرخة ب 30 مارس 1912، حيث تم تنظيم القضاء بظهير 12 غشت 1913.
وعليه ماهي أهم الإصلاحات القضائية والتنظيمية والمبادئ التي تضمنها ظهير 1913.
1-الإصلاحات القضائية لسنة 1913( )
من الناحية التنظيمية، وقبل تأسيس نظام الحماية بالمغرب، كان الأمر معقدا، ومتعدد الأشكال، وكانت خريطة التنظيم القضائي على الشكل التالي:
- قضاء الشرع الإسلامي (المحاكم الشرعية)
- قضاء المخزن الذي كان موكولا للعمال والباشوات والقياد.
- القضاء المتعلق بالمغاربة اليهود (المحاكم العبرية) والمحاكم القنصلية المختصة بالقضايا المتعلقة بالأجانب.
إلا أنه سيتم إعادة النظر في هذا التنظيم بموجب ظهير 1913، حيث ستحدث محاكم فرنسية (المحاكم العصرية)، مستوحاة من حيث جوهرها من التجربة التونسية التي تميزت بإحداث نوع واحد من المحاكم، ومنحها المشرع في نفس الوقت اختصاصين الأول في المادة المدنية والثاني في المادة الإدارية.
وقد تم إحداث المحاكم الفرنسية سنة 1913 على ثلاث مستويات.
*محكمة الصلح: التي تبت في القضايا البسيطة المتعلقة بالمادة المدنية أو التجارية... إما بصفة قطعية، وإما مع مراعاة الاستئناف أمام المحاكم الابتدائية، أما القضايا الإدارية، فمحاكم الصلح لم يكن لها حق النظر فيها.
*المحكمة الابتدائية: التي تكون مختصة كلما كان النزاع يتعلق بمواطن فرنسي أو أجنبي حتى، لو كان في مواجهة مع مواطن مغربي( )، وهذه المحاكم تختص كذلك بتطبيق كل التشريعات الجديدة.
*محكمة الاستئناف: التي أحدثت بالرباط وتتمثل اختصاصاتها في البت في الأحكام المستأنفة أمامها.
ونشير إلى أنه في عهد الحماية لم تكن هناك محكمة للنقض، وبالتالي لم يكن بإمكان الأفراد الطعن في الأحكام الصادرة عن محكمة الاستئناف بالرباط، وعلى العكس من ذلك كانت الإدارة وحدها قادرة على الطعن ضد هذه الأحكام أمام مجلس الدولة الفرنسي، عن طريق النيابة العامة.
من هنا يمكن القول أن النظام القضائي الذي وضع سنة 1913، حافظ على النظام القضائي الذي كان موجودا قبل الحماية، وتم إحداث محاكم عصرية خدمة لمصالح المستعمر في تلك الفترة، كما أن ظهير 1913 وضع مجموعة من المبادئ في مادته الثامنة أسست بشكل أو بآخر لما يمكن تسميته "القضاء الإداري". من هذا المنطلق يمكننا أن نتساءل عن أهم المبادئ التي تضمنها التنظيم المحدث سنة 1913.
2-أهم المبادئ التي تضمنها ظهير 1913
تستشف هذه المبادئ من خلال قراءة المادة 8 من ظهير 1913، والتي جاء فيها ما يلي: "في المواد الإدارية تختص جهات القضاء الفرنسي المنشأة في امبراطورينا، وذلك في حدود الاختصاص الممنوح لكل منها بالنظر في جميع الدعاوى التي تهدف إلى تقرير مديونية الدولة والإدارات العامة التي أمرت بها، أو بسبب جميع الأعمال الصادرة منها والضارة بالغير، وتختص نفس الجهات بالنظر في الدعاوى المرفوعة من الإدارات العامة على الأفراد، وتمثل الإدارات العامة أمام القضاء بواسطة أحد موظفيها، ولا يجوز لجهات القضاء المحدثة أن تأمر سواء بصفة أصلية أو تبعا لدعوى منظورة أمامها من الدعاوى التي سبق ذكرها أن تأمر بأي إجراء من شأنه أن يعطل نشاط الإدارات العامة، سواء كان ذلك بتعطيل تنفيذ اللوائح التي أصدرتها أو الأشغال العامة، أو بتعديل طريقة أو مدى تنفيذها، كما يمنع عليها أن تنظر في طلب إلغاء قرار أصدرته إدارة عامة ولا يخل ذلك بحق صاحب المصلحة في التظلم بطريقة الالتماس إلى الجهة الإدارية التي تعدل القرار الذي يمس به، وتكون الأحكام الصادر في المسائل الإدارية وقابلة في جميع الأحوال للطعن فيها بالاستئناف ولا يجوز الطعن فيها بالنقض، إلا بناء على تجاوز المحكمة لسلطتها بسبب مخالفة الفقرتين الرابعة والخامسة السابقتين، وفي هذه الحالة يرفع النقض مباشرة بواسطة النيابة العام، ويترتب على هذا النقض وقف تنفيذ الحكم، ويكون النقض حجة على جميع أطراف الخصومة".
من خلال ما تقدم، يمكن القول أن المادة 8 من ظهير 1913، هي التي أسست القضاء الإداري بالمغرب، كما أن هذا الظهير بشكل عام والمادة 8 بشكل خاص تحمل بين طياتها مجموعة من المبادئ من أهمها:
*مبدأ وحدة المحاكم وثنائية القانون.
*المادة الإدارية.
*مبدأ فصل السلطة القضائية عن السلطة الإدارية.
*مبدأ وحدة المحاكم وثنائية القانون: كما سبقت الإشارة فسلطات الحماية لم تنقل التجربة الفرنسية في مجال القضاء إلى المغرب جملة وتفصيلا، بل اكتفت باستنساخ التجربة التونسية وإعادة دمجها داخل المغرب بما يتماشى وواقعه السياسي.
"كما أن هذا الإنتاج الحقوقي الحمائي بالمغرب كان مقتصرا للغاية، ويتماشى والسياسة العامة التي طبقتها سلطة الحماية في حق المغرب، كما أنه يتماشى والواقع الاجتماعي والسياسي المغربي، بحيث نجد أن الإنتاج الحقوقي كان متطابقا مع تلك المرحلة، فالقضاء الإداري كقضاء مرن ومتحرك إنما هو وبكل بساطة انعكاس لواقع معاش، وحينما نجد أن المغرب كان يعيش مخاضا في كثير من المجالات نجد أنه من غير المنطقي أن تنقل كل التطورات التي عرفها القضاء الإداري الفرنسي إلى المغرب بكل مكوناتها لأن الفارق كبير ما بين الواقع الفرنسي والواقع المغربي في تلك الفترة"( ).
ومن هنا نجد أن النظام القضائي الذي تم وضعه في عهد الحماية، يتميز بوجود نوع واحد من المحاكم، مع العلم أن هذه الوحدة تحمل في عمقها ازدواجية قانونية، أي وجود نوع واحد من المحاكم، ومنحها اختصاصين الأول في المادة المدنية والثاني في المادة الإدارية.
وقد أثار هذا الوضع عدة تساؤلات من أهمها؛ ماهو السبب الذي دفع بسلطات الحماية إلى إحداث نظام قضائي، مختلف عن النظام القضائي المتعامل به في فرنسا الذي يتبنى ثنائية المحاكم والقانون؟
من أهم الأجوبة التي أعطيت لهذا التساؤل، "نجد أن سلطات الحماية قد تأثرت بالتجربة التونسية في هذا الميدان لكن هذا الجواب يبقى نسبيا، إذ يمكن الرجوع إلى مجموعة من المعاهدات وعلى رأسها معاهدة الجزيرة الخضراء سنة 1906، التي أسست بالمغرب سياسة الباب المفتوح، كما أن معاهدة برلين المؤرخة ب 4 نونبر 1911 بين فرنسا وباقي الدول الأوربية نصت في فصلها التاسع أنه على فرنسا تأسيس نظام قضائي بالمغرب متأثرة بكل المبادئ القضائية لكل الدول المشاركة في معاهدة الحماية، نظرا لعدة مصالح كانت ترتبط هذه الدول المشاركة بالمغرب"( ).
ومن جهة أخرى فالنظام الفرنسي تعرض لمجموعة من الانتقادات من طرف الفقيه Diecy الذي لم يكن يعترف بالمحاكم الإدارية الفرنسية لأنه يعتبرها إدارة وليست قضاء.
وعليه، تم إحداث نوع واحد من المحاكم على غرار الأنظمة الانجلوسكسونية مع منحها في نفس الوقت اختصاصين الأول في المادة المدنية والثاني في المادة الإدارية.
-المادة الإدارية:
جاء في الفقرة الأولى من المادة 8 من ظهير 1913 على أنه "في المادة الإدارية المحاكم المدنية التي أنشأت مختصة دون سواها للنظر في كل القضايا التي تهم مديونية الدولة والإدارات العامة المأمور بها وكل عمل نتح عنه ضرر للغير".
يطرح هذا الشطر العديد من الملاحظات لعل أهمها، أن المحاكم الابتدائية هي التي تختص دون سواها بالنظر في دعاوى المسؤولية التي ترفع على الإدارة، بما في ذلك الدعاوى المتعلقة بمديونية الدولة، وذلك تلافيا للغموض أو تنازع الاختصاص الذي كان قائما بين المحاكم الشرعية والمحاكم العصرية، وهذا ما حدى بالمشرع سنة 1928 إلى إعادة صياغة مضمون المادة 8 من ظهير 1913 المتعلق بالتنظيم القضائي، حيث تم صياغتها دون لبس على النحو التالي "تبت المحاكم الفرنسية المحدثة في إيالتنا الشريفة دون سواها، في جميع الدعاوى الرامية إلى التصريح بمديونية الدولة والإدارات العمومية( ).
ومن جهة أخرى نجد أن هذا الشطر من المادة 8 قد وضع منذ الوهلة الأولى التميز الأساسي بين المادة المدنية والمادة الإدارية، وهذا يعني أن القواعد المتعلقة بكل من المادتين تختلف الواحدة عن الأخرى.
كما يستخلص من مضمون هذه الفقرة، أن المادة الإدارية مرتبطة بمديونية الدولة، أي أن القاضي عندما يكون أمام نازلة تهم مديونية الدولة أو الإدارات العامة فهو ملزم بتطبيق قواعد القانون الإداري "وهذا ما أقره الفقه المغربي لمدة طويلة في هذا المجال، إذ اعتبر هذه الأخيرة المؤشر الرئيسي للفصل بين المادة المدنية والمادة الإدارية"( ).
وعليه نجد أن القضاء أخذ بمعيار المديونية للتمييز بين القضايا المدنية والقضايا الإدارية، وهذا ما يؤكد على أن سلطات الحماية أرادت خلق قضاء إداري متميز عن القضاء العادي.
إلى جانب المادة 8 من ظهير 1913 نجد كذلك الفصلين 79 و80 من ق.ل.ع الذين يحددان مسؤولية الإدارة عن الأضرار الناتجة عنها في تسيير مرافقها.
فالفصل 79 من ق.ل.ع جاء فيه على أن "الدولة والبلديات مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها".
أما الفصل 80 من ق.ل.ع فقد تحدث عن المسؤولية الشخصية للموظف وعن الأضرار الناتجة عن تدليسهم أو الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم.
والجدير بالإشارة هنا أن ق.ل.ع كشريعة عامة جاء ليؤطر علاقة الأفراد فيما بينهم ، إلا أن الفصلين 79 و80 يعتبران استثناءا من تلك القاعدة.
ومن جهة أخرى فالفصلين المذكورين طرحا العديد من الأسئلة على المستوى الفقهي؛ من بينها هل أراد مشرع سنة 1913، فصل المسؤولية المدنية عن المسؤولية الإدارية رغم تأسيس نوع واحد من المحاكم؟
في الحقيقة وضع الفصلين 79 و80 داخل ق.ل.ع لا تعدو ابتكارا في حد ذاته، اللهم إدراج الفصلين في نفس الفلسفة القانونية التي تحكم مجموعة ق.ل.ع، زيادة على هذا لم يكن المغرب قبل سنة 1913 يعرف قانونا آخر غير القانون المدني، إذن ما جدوى التساؤل في إخضاع الفصلين 79 و80 لقواعد أخرى غير القانون المدني! بمعنى آخر أن المغرب لم يعرف قواعد قانونية أخرى وبالتالي فمن المنطقي أن نجد الفصلين 79 و80 داخل مدونة مدنية مع الاعتراف لهما بخصوصيتهما، فالقاضي عندما يكون أمام نازلة تهم مديونية الدولة، أو الإدارات العمومية يعمل على تميزها ويتعامل بفلسفة قانونية مغايرة لما يتم التعامل به في القضايا المدنية، وهذا ما سيتضح أكثر عند تطرقنا لمبدأ فصل السلطة القضائية عن السلطة الإدارية.
*مبدأ فصل السلطة القضائية عن السلطة الإدارية:
يستشف هذا المبدأ من منطوق المادة 8 (1913) إذ جاء في الفقرة الثانية ما يلي: "...يمنع على المحاكم أن تأمر سوء بصفة أصلية، أو تبعية... بأي إجراء من شأنه أن يعرقل نشاط الإدارات العامة، سواء كان ذلك بتعطيل تنفيذ اللوائح التي أصدرتها أو الأشغال العامة المزمع انجازها، أو بتعطيل طريقة ومدى تنفيذها كما يمنع عليها أن تنظر في طلب إلغاء قرار أصدرته الإدارة...".
يستنتج من مضمون هذه الفقرة أن المحاكم المحدثة في عهد الحماية بمختلف درجاتها، كانت محرومة من النظر في دعاوى، إلغاء القرارات الإدارية، أو بطلب تعديلها، كما أنها لا يمكن أن تأمر بأي إجراء من شأنه عرقلة عمل الإدارة.
"وقد وضع هذا الشطر مبدأ جديدا لم يكن يعرفه المغرب فيما قبل، إنه مبدأ الفصل بين السلطتين القضائية والإدارية الذي يمنع على المحاكم بكل درجاتها، وهي تبت في النوازل الإدارية عرقلة نشاط الإدارة"( )، بمعنى أن يتعامل القاضي مع النوازل الإدارية بشكل مختلف أو بفلسفة قانونية مغايرة لما يتم التعامل به في النوازل المدنية.
وبهذا يمكن التأكيد على أن المحاكم التي أنشأت في عهد الحماية كانت غير مختصة بالنظر في دعاوى بل يحضر عليها إصدار أي أمر للإدارة من شأنه عرقلة هذه الأخيرة.
إلا أنه ونتيجة للقلق الذي انتاب الجالية الفرنسية المقيمة بالمغرب خاصة الموظفين منهم، وبعد سلسلة من الشكايات، إلى الإدارة الفرنسية سمحت سلطات الحماية للموظفين العموميين أجانب ووطنيين، وفق ظهير 1928، بالتقدم بدعوى الإلغاء، ضد القرارات الإدارية المشوبة بعيب (دعوى الشطط) أمام مجلس الدولة الفرنسي، وذلك اقتداء بالحل الذي اختارته -سلطات الحماية- من قبل في تونس سنة 1926( ).
إلا أن هذا الاستثناء لم يعرف أي تطبيقات جوهرية تذكر، وهذا راجع إلى التقييدات المسطرية، والتكاليف المالية الباهظة مما يجعل الكثيرين يتراجعون عن مثل هذه القضايا حتى لو كانوا أصحاب حق.
وبقطع النظر عن كل العيوب التي شابت التنظيم القضائي بالمغرب في المادة الإدارية، فالسمات العامة لهذا التنظيم مازالت مطبقة في أهم مظاهرها، باستثناء بعض التعديلات التي فرضها المغرب في عهد الاستقلال.
II-السمات العامة للقضاء الإداري بالمغرب في عهد الحماية
قبل أن نتطرق إلى السمات العامة، التي ميزت مرحلة الحماية، من الجدير بنا أن نتعرض لأهم التطورات التي عرفتها النصوص القانونية ولو بإيجاز.
1-تطور النصوص القانونية في المادة الإدارية:
ظهر في التشريع المغربي، عدة نصوص قانونية أخرى، أسست قضاء إداري متميز، ومنح الاختصاص فيه للمحاكم العصرية، ومن أهم هذه النصوص نذكر:
• سنة 1914 قضاء نزع الملكية وفي نفس السنة نجد كذلك قضاء الأملاك العامة.
• سنة 1924 قضاء الضرائب.
• سنة 1935 قضاء المتابعات فيما يخص مستحقات الخزينة.
• وفي أواخر الخمسينات قضاء الانتخابات.
ورغم تعدد النصوص القانونية في المادة الإدارية، إلا أنها بقيت تزكي نفس الاتجاه المعمول به، أي القضاء الإداري الشامل الذي تدخل في حظيرته قضايا المسؤولية الإدارية.
2-السمات العامة للقضاء الإداري بالمغرب
فيما يخص السمات العامة، التي ميزت مرحلة الحماية يمكن حصرها في الآتي:
إن تبني نظام وحدة المحاكم وثنائية القانون لم يأت بصورة اعتباطية، بل الهدف من ورائه خدمة الإدارة الفرنسية ومصالحها التي عهد بتحقيقها إلى شركات استعمارية وأشخاص عهد إليهم بتنفيذ السياسة الاستعمارية، وتبعا لذلك لقي هؤلاء أمامهم كل التسهيلات من قبل، الإدارة"( ). 
كما أن عدم تبني قضاء إداري قائم بذاته له قواعده الشكلية والموضوعية زاد من حدة هذه الاختلالات.
ومن جهة ثانية نشير إلى أن المادة 8 من ظهير 1913 المتعلق بالتنظيم القضائي جاءت مقتصرة على ثلاث ميادين تدخل في إطار القضايا الإدارية والتي يمكن مساءلة الإدارة بشأنها، وتنحصر هذه القضايا في:
• التعويض عن الأضرار الناجمة عن العقود التي تبرم مع الإدارة.
• الأشغال العامة التي تأمر بها الإدارة.
• المسؤولية الناتجة عن الأضرار التي تتسبب فيها الإدارة.
كما أن عمل الإدارة لا يمكن الطعن فيه إلا في حدود ضيقة.
وتبعا لذاك يمكن القول أن الإصلاحات الحمائية في المجال القضائي بشكل عام والميدان الإداري على وجه الخصوص جاءت لخدمة الأجندة الاستعمارية.
إلا أنه وللتاريخ، لا ننكر أن الإنتاج الحقوقي الحمائي، قد أعطى مدلولا جديدا للقضاء الإداري في المغرب، وأن هذه المرحلة كانت مناسبة لدخول النظم القانونية الأوربية إلى البلاد، وبأن الاجتهادات القضائية والشروح والتوضيحات الفقهية التي قدمت أثناءها مازالت تحتفظ بجل قيمتها في الوقت الحاضر، وعلى كل حال تلك مرحلة في تاريخ المغرب لها سياقها وخصوصيتها التي ميزتها إلى حدود 1956 حيث سيشهد المغرب مرحلة جديدة تميزت بمجموعة من الإصلاحات في مختلف المجالات، بما في ذلك إدخال إصلاحات هامة على صعيد المنظومة القضائية المغربية التي كرست للإرث الحمائي، وقد استمر هذا الوضع منذ بداية الاستقلال إلى حدود سنة 1993 السنة التي سيعرف فيها التنظيم القضائي المغربي مرحلة جديدة.
من ذلك يتعين علينا رصد مختلف الإصلاحات التي همت التنظيم القضائي المغربي خلال المرحلة لفاصلة ما بين سنة 1957 و1993.
وهذا ما ستطرق إليه في المحور الثاني من هذا العمل.

*مرحلة الاستقلال: (1957- 1993):
مباشرة بعد حصول المغرب على استقلاله عمل على إدخال إصلاح عميق على نظامه السياسي والقضائي، وذلك بالعمل على خلق وترسيخ دول الحق والقانون والتأكيد على حريات الأفراد والسهر على حسن سير الأمور العامة للبلاد، الشيء الذي تجلى في المسار الذي اتبعه المغرب من خلال إنشاء المجلس الوطني الاستشاري وإصدار قانون لتنظيم الحريات العامة... وبالتالي العمل على خلق دولة حديثة بكل مميزاتها (الدستورانية) وهذا ما تبين من خلال الدساتير المغربية وأولها دستور 1962.
وبذلك سعى المغرب في مرحلة الاستقلال إلى إدخال إصلاحات على كل المجالات من بينها التنظيم القضائي، وذلك من خلال إحداثه لقوانين جديدة ولأجهزة قضائية جديدة سعيا لخلق دولة القانون مع حفاظه على المنظومة القضائية الموروثة عن فترة الحماية( )، وفي هذا الإطار يرى الأستاذ محمد مرغني أنه: "ليس من المتصور عقلا وقد يكون مفيدا، القضاء على كل ما وضع وتم في العهد السابق"( )، إلى جانب ذلك ترى الأستاذة مليكة الصروخ "أن من مظاهر سياسة المغرب الحكيمة هو الإبقاء على تلك التشريعات والنظم مع تناولها بما يقتضيه الاستقلال، ويساير مصلحة البلاد، ووفقا لما تستدعيه ضرورة التطور من إصلاح وتعديل"( ).
ومن هذا المنطلق يتعين علينا رصد مختلف الإصلاحات التي همت التنظيم القضائي الإداري المغربي منذ 1957 سنة إنشاء المجلس الأعلى وإحداث قضاء الإلغاء مرورا بإبراز ما جاء في التعديلات المؤرخة في سنة 1965 و1967 و1974 وصولا إلى إعطاء تقييم عن مرحلة القضاء الموحد الذي انتهت بحلول سنة 1993 سنة صدور القانون المنشئ للمحاكم الإدارية الذي أعطى الانطلاقة للقضاء المتخصص.
1-إنشاء المجلس الأعلى (الغرفة الإدارية):
عرف التنظيم القضائي المغربي أول إصلاحاته بعد الاستقلال بإنشاء المجلس الأعلى بمقتضى ظهير رقم 1.57.223 الصادر في 27 شتنبر 1957 بكل غرفه (خمس غرف) وأهم غرفة ميزت هذا المجلس الغرفة الإدارية، غير أن تأسيس المجلس الأعلى لم يكن ثورة قضائية لأنه لم يأت بأي تغيير على صعيد النظرة القضائية المعمول بها حيث أن الغرفة الإدارية ليست بمحكمة مستقلة عن المجلس الأعلى وإنما تعد فقط غرفة كباقي الغرف المكونة للمجلس تنتمي للجهاز القضائي الموحد لأن المشرع سنة 1957 أبقى على مبدأ وحدودية المحاكم كما عرف في المغرب منذ 1914"( ).
وبذلك فإن الاختصاص في المنازعات الإدارية موكول به إلى القضاء العادي المتمثل في المحاكم المدنية والمجلس الأعلى كل في حدود اختصاصاته.
*تنظيم وتأليف المجلس الأعلى:
في الوقت الراهن يحدد كيفية تكوين واختصاصات المجلس الأعلى( )، الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.338 بتاريخ 15 يوليوز 1974 والمتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة المغربي، وكذا المرسوم التنفيذي له رقم 2.74.428 الصادر في 16 يوليوز 1974( ).
فالمجلس الأعلى يرأسه رئيس أول ويمثل النيابة العامة فيه الوكيل العام للملك ويساعده المحامون العامون. ويشمل المجلس كذلك في تأليفه على رؤساء الغرف ومستشارين وعلى كتابة الضبط وكتابة النيابة العامة.
كما ينقسم المجلس إلى ست غرف غرفة مدنية وتسمى بالغرفة الأولى وغرفة الأحوال الشخصية والميراث وغرفة جنائية وغرفة اجتماعية وغرفة إدارية وغرفة تجارية( ).
ويرأس كل غرفة رئيس كما يمكن تقسيم كل غرفة إلى أقسام تبعا لتعدد القضايا التي تبت فيها نفس الغرفة.
ويعقد المجلس الأعلى جلساته ويصدر قراراته من طرف خمسة قضاة بمساعدة كاتب الضبط ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، كما يعتبر حضور النيابة العامة ضروريا في كل الجلسات.
بالإضافة إلى ذلك يسهر الرئيس الأول للمجلس الأعلى على انجاز القضايا في أحسن الظروف وعلى حسن سير مصالح كتابة الضبط كما يمارس رقابته على المستشارين وعلى الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف. كما للوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى السلطة على أعضاء النيابة العامة بالمجلس وعلى مصالح كتابتها، ويراقب أعوان كتابة الضبط المكلفين بالمصلحة الجنائية أو المسندة إليهم مهام حسابية.
-يتألف المجلس الأعلى كذلك من مكتب يقوم بتنظيم المصلحة الداخلية للمجلس، ويتألف هذا المكتب من الرئيس الأول ورئيس كل غرفة وأقدم مستشار فيها، ثم الوكيل العام للملك وقيدوم المحامين العامين وأخيرا رئيس كتابة الضبط الذي يحضر اجتماعات المجلس.
مهمة المكتب تتجلى في توزيع القضاء والقضايا بين مختلف الغرف وتحديد عدد أقسامها عند الاقتضاء وتحديد أيام وساعات الجلسات.
تجدر الإشارة إلى أن السنة القضائية تبتدئ في فاتح يناير وتنتهي في 31 دجنبر أي طوال أيام السنة دون انقطاع.
وبعد أن استعرضنا تنظيم وتأليف المجلس الأعلى لابد من التطرق لاختصاصاته القضائية في المادة الإدارية.
ب-اختصاصات المجلس الأعلى (الغرفة الإدارية):
بإنشاء المجلس الأعلى سنة 1957 حدث تطور في التنظيم القضائي المغربي حيث تم إحداث جهاز قضائي جديد بمثابة محكمة منقسمة إلى غرف متعددة لها اختصاصات متنوعة وما يهمنا هو الغرفة الإدارية التي تقاسمت الاختصاصات الإدارية مع المحاكم المدنية.
فسلطة المجلس الأعلى مبدئيا تقتصر على البحث في موافقة الحكم المطعون فيه للمبادئ والنصوص القانونية أو عدم موافقته لذلك، فإن وجد المجلس الحكم متفقا مع تلك المبادئ والنصوص القانونية قضى برد الطعن، وفي حالة العكس فإنه يقضي بنقض الحكم فقط وإعادة ملف القضية إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المنقوض أو إلى محكمة أخرى مساوية لها من حيث الدرجة، فإذا أحال المجلس القضية على المحكمة التي أصدرت الحكم فإنه يتعين عليها أن تتشكل من قضاة لم يشاركوا في الحكم المطعون فيه أمام المجلس الأعلى، وذلك حتى تعيد النظر في جوهر النزاع على ضوء المبادئ والنصوص القانونية التي وردت في قرار النقض( ).
كما أوكل المشرع للمجلس الأعلى الغرفة الإدارية اختصاصات بمقتضى الفصل 362 من قانون المسطرة المدنية حق النظر في:
-الطعون بالنقض ضد الأحكام القضائية الصادرة في القضايا التي يكون احد الأطراف فيها شخصا عموميا.
-الطعون الموجهة ضد مقررات السلطات الإدارية للشطط في استعمال السلطة.
وقد اشترط الفصل 359 من ق.م.م أن تكون طلبات نقض الأحكام المعروضة على المجلس الأعلى مبنية على أحد الأسباب التالية:
-خرق القانون الداخلي.
-خرق قاعدة مسطرية أضرت بأحد الأطراف.
-عدم الاختصاص (علما بأن الاختصاص يعد من النظام العام).
-الشطط في استعمال السلطة.
-عدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل.
وبذلك فالمجلس الأعلى (الغرفة الإدارية) له اختصاصين اختصاص بصفته محكمة نقض ثم كذلك حق النظر في الطعون الموجهة ضد قرارات السلطات الإدارية، لكن اختصاص الغرفة الإدارية في هذا المجال غير مطلق وإنما هو اختصاص نسبي كما سنرى ذلك في تطرقنا لقضاء الإلغاء.
2-إحداث قضاء الإلغاء والتطورات التي لحقته
أ-قضاء الإلغاء:
لقد صاحب إنشاء المجلس الأعلى إحداث قضاء الإلغاء من اجل الشطط في استعمال السلطة، ودعوى الإلغاء تعتبر من بين الركائز الأساسية في القضاء الإداري فهي تشكل أحسن أنواع الرقابة القضائية على أعمال الإدارة، وأهم الوسائل القانونية لضمان حقوق الأفراد، بحيث تمكن الطاعن من التوجه إلى الجهات القضائية لإلغاء قرار إداري غير مشروع، وتعتبر هذه الدعوى دعوى عينية ضد قرار مخالف للقانون.
ويقتصر دور القاضي في دعوى الإلغاء على تقرير ما إذا كان القرار الإداري المطعون فيه مخالفا للقانون أم لا، فإذا كان مخالفا فيصدر حكمه بإعدامه وإلغائه وفي حالة مطابقة القرار المطعون فيه للقانون فإنه يقضي برد الدعوى.
وفي هذا الإطار قضى المجلس الأعلى بأنه "ليست دعوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة دعوى بين الخصوم ولكنها دعوى ضد مقرر إداري بقصد التوصل إلى إلغائه بأثر قبل الكافة"( ).
والقرار الإداري هو الذي يصدر عن السلطات الإدارية بإرادتها المنفردة والملزمة بما لها من سلطة عامة ويكون من شأنه إنشاء أو تعديل أو إنهاء مركز قانوني معين متى كان ذلك ممكنا وجائزا شرعيا وكان الغرض منه ابتغاء المصلحة العامة.
وبالتالي فإن دعوى الإلغاء ترمي إلى التزام مبدأ الشرعية، غير أن هذه الدعوى يستثنى منها في المغرب:
- القرارات التي لا تعتبر مقررات إدارية(التوجيهات، المناشر، المقررات القضائية، أعمال السيادة...)
- القرارات الإدارية التي لا تحمل طابعا تنفيذيا.
- القرارات الملكية في المجال الإداري.
وقد أعطى المشرع هذا الاختصاص للغرفة الإدارية ابتدائيا وانتهائيا بناء على نص الفصل 362 من قانون المسطرة المدنية.
غير أن الملاحظ هو أن اختصاص الغرفة الإدارية في هذا المجال (قضاء الإلغاء) ليس اختصاصا مطلقا طالما أن المقطع الثاني من الفصل 362 من ق.م.م اعتبر أنه: "يصح أن تبحث وتحكم كل غرفة في القضايا المعروضة على المجلس أيا كان نوعها" وهو ما أكده الفصل 10 من الظهير المنشئ للمجلس الأعلى. 
وبذلك فإن اختصاص الغرفة الإدارية في المجلس الأعلى فيما يخص قضاء الشطط في استعمال السلطة اختصاص نسبي طالما أن المشرع يبيح لأي غرفة النظر في اختصاص غرفة أخرى( )، بحيث يجوز لأي قاض من قضاة المجلس النظر في أية قضية بغض النظر عن طبيعتها سواء كانت مدنية أو جنائية أو اجتماعية أو متعلقة بالأحوال الشخصية والميراث مع التسليم باختلاف هذه القضايا خصوصا تلك المتعلقة بالمنازعات الإدارية ذات الطبيعة المتميزة.
وفي هذا الإطار يرى الأستاذ عبد القادر بانية بخصوص أحقية كل غرفة من غرف المجلس الأعلى بالنظر في جميع القضايا المعروضة على المجلس أن "هذه الاختيارات جاءت لتؤكد على وحدة القضاء ولتلافي الإشكاليات التي يمكن أن تنتج عن ازدواجية القضاء، وخاصة قضاء التنازع".
فإحداث قضاء الإلغاء يشكل تطورا مهما على صعيد الترسانة القانونية وعلى صعيد ترسيخ دولة القانون والتأكيد على حرية الأفراد طالما أن هذا الإحداث يتيح لهم حق الدفع بإلغاء القرارات الإدارية المتصفة بالشطط في استعمال السلطة، وبالتالي المطالبة بحقوقهم أمام الجهات القضائية التي تسهر على المراقبة القضائية للأعمال الإدارية كالقرارات الفردية أو التنظيمية.
ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار أن المغرب أصبح يتوفر على قضاء إداري كامل من ناحية قضاء إداري شامل أو قضاء المديونية الذي كان يدخل في اختصاص المحاكم العادية ابتدائيا وانتهائيا ولا يدخل في اختصاص المجلس الأعلى إلا في مرحلة النقض ومن ناحية ثانية قضاء الإلغاء الذي كان من اختصاص الغرفة الإدارية ابتدائيا وانتهائيا( ).
فالقضاء الإداري المغربي المحدث بموجب ظهير 1913 في عهد الحماية وما تلاه من إحداث لنصوص قانونية إدارية شكلت ما يسمى بالقضاء الإداري الشامل لم يكن يعرف قضاء الشطط في استعمال السلطة بل طبق هذا الأخير في حدوده الضيقة، حيث يرى الأستاذ محمد بن طلحة الدكالي "أنه ونتيجة للقلق الذي انتاب الجالية الفرنسية المقيمة بالمغرب، خاصة الموظفين منهم، وبعد سلسلة من الشكايات إلى الإدارة الفرنسية. سمحت الحماية للموظفين العموميين أجانب ووطنيين وفق ظهير فاتح شتنبر لسنة 1928 بالتقدم بدعوى الإلغاء من اجل الشطط في استعمال السلطة ضد القرارات الإدارية الخاصة بهم أمام مجلس الدولة الفرنسي، وذلك اقتداء بالحل الذي اختارته من قبل في تونس سنة 1926( )، وبذلك فالمحاكم في عهد الحماية كانت محرومة من النظر في دعوى إلغاء القرارات الإدارية أو بطلب تنفيذها( ).
وفي هذا الإطار يمكننا أن نطرح تساؤلا مهما وهو لماذا لم تعمد سلطات الحماية على خلق قضاء الإلغاء إسوة بخلقها للقضاء الإداري الشامل؟
من حيث الجواب على هذا التساؤل يرى الأستاذ عبد القادر بانية "أن هذا راجع لرواسب التجربة الفرنسية في الموضوع حيث أن قانون 24 غشت 1970 الفرنسي الصادر مباشرة بعد الثورة الفرنسية بمنع المحاكم الفرنسية من التدخل في شؤون الإدارة انطلاقا من التأويل الجامد لمبدأ فصل السلطات الذي عمل به رجال الثورة الفرنسية( ). 
وبذلك فإن دعوى الإلغاء كانت غير معروفة بشكلها العادي في عهد الحماية لأن القرارات القابلة للطعن فهي المتعلقة بنظام الموظفين فقط، غير أن التطورات المتلاحقة والمتعلقة بالتنظيم القضائي أدت في النهاية إلى إقرار قضاء الإلغاء كأهم وسيلة للدفاع عن الحق.
لكن رغم إنشاء قضاء الإلغاء سنة 1957، فقد طبعته عدة صعوبات من بينها الإجراءات المسطرية المعقدة من قبيل إلزامية رفع التظلم الإداري قبل دعوى الإلغاء، وهو ما يشكل حاجزا أمام المتقاضين، لكن الإصلاح القضائي لسنة 1974 جاء ليخفف من هذه الإجراءات خدمة للعدالة وهو كذلك إجراء يهدف إلى تقريب الإدارة من المواطنين كما يقول بذلك الأستاذ عبد القادر بانية( )، حيث أن هذا الإصلاح الإداري إجراءا اختياريا.
كما أن من بين الإجراءات المعقدة التي تؤخذ على دعوى الإلغاء اشتراط رفع الطلب إلى المحكمة كتابة وتوقيعه من قبل محام مسجل في هيئة المحامين المقبولين للترافع أمام المجلس الأعلى كما ينص على ذلك الفصل 354 من ق.م.م وهو إجراء يؤدي عدم احترامه إلى رفض الدعوى وبالعكس من ذلك فالدولة تعفى من مساعدة المحامين، فكل هذه الإجراءات تعقد من مسطرة الدعوى من اجل الشطط في استعمال السلطة وبالتالي تعرض حقوق الأفراد وحريتهم للضياع إما بسبب تعقد المسطرة والإجراءات أو جهل المواطنين لها.
إذن فماهي أهم الإصلاحات التي عرفها القضاء الإداري منذ إحداث المجلس الأعلى إلى غاية 1993؟
ب-التطورات القضائية المؤرخة في 1965 و 1974 وانعكاسها على القضاء الإداري المغربي.
منذ إحداث التنظيم القضائي المغربي سنة 1913 والتعديلات تتوالى على هذا التنظيم، وذلك من أجل ملائمته مع المستجدات والوضعية السياسية والقانونية والاجتماعية المتسمة بالحركية التي يعرفها المغرب منذ حصوله على الاستقلال ( سنة 1956).
وفي هذا الصدد يأتي إصلاح التنظيم القضائي سنة 1965 وسنة 1975. ففي سنة 1965 قرر المشرع المغربي تعريب وتوحيد ومغربة القضاء وهو تأكيد جديد للاستقلالية المغرب وإثبات ذاته وهويته العربية والإسلامية، أما عن التوحيد فقد أدمجت المحاكم العصرية مع المحاكم التقليدية( ).
وبذلك أصبحت جميع المحاكم المغربية باستثناء المحكمة العسكرية والمحكمة العليا( ) موحدة فكانت تتكون من:
- محاكم السدد وتنظر في الأحكام الشرعية والعبرية كدرجة أولى.
- المحاكم الإقليمية.
- المحاكم الاستئنافية.
- المجلس الأعلى( ).
ولم يقف الأمر عند هذا التعديل بل تلاه صدور مرسوم 1967 الذي يعتبر بمثابة القانون الذي أعطى الخطوط العريضة للنظام السابق مع ضرورة التوفيق بينها وبين التحولات الناتجة عن هذا التوحيد مع العلم أن هذا المرسوم لم يدخل تعديلات جوهرية على روح الظهير المؤسس للمجلس الأعلى لسنة 1957.
وقد أعطى هذا المرسوم الاختصاص العام في المادة الإدارية للمحاكم الإقليمية (الفصل 17 منه) بينما تختص المحاكم الاستئنافية استئنافا وأقصيت المحاكم السدد من كل اختصاص في هذا المجال (المادة الإدارية).
أما الفصل 23 الخاص بالمجلس الأعلى فيبقي على نص الظهير المؤسس له الصادر سنة 1957، كما أن المرسوم المذكور (مرسوم 1967) ينص في فصله 48 على أنه: "تلغى جميع المقتضيات المخالفة لهذا القانون ولاسيما الظهير الصادر في 12 غشت 1913 بشأن التنظيم القضائي باستثناء المقاطع 1 و 3 و 4 و 5 من فصله الثاني( ). 
أما الإصلاح القضائي لسنة 1974 فسيدخل بعض التعديلات ويعتبر بذلك خطوة مرحلية من بين الخطوات التي قطعها التنظيم القضائي المغربي بصفة عامة والقضاء الإداري بصفة خاصة، حيث بموجب الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.338 بتاريخ 15 يوليوز 1974 تم تغيير نوعين من المحاكم، محاكم السدد التي تم تعويضها بمحاكم الجماعات والمقاطعات( ) التي تبت في القضايا المدنية والجنائية الصغيرة تم المحاكم الإقليمية التي تم تعوضها بالمحاكم الابتدائية وفي نفس الوقت جرى الرفع من عددها.
وبذلك أصبح الجهاز القضائي المغربي بعد سنة 1974 مكونا من:
- محاكم الجماعات والمقاطعات.
- المحاكم الابتدائية.
- المحاكم الاستئنافية.
- المجلس الأعلى.
كما صدرت بموجب هذا الإصلاح مجموعة من القوانين المتعلقة بالقضاء الإداري كقانون المسطرة المدنية الذي نظم القواعد الإجرائية والمسطرية المتبعة في التقاضي أمام المحاكم بما فيها المجلس الأعلى (الغرفة الإدارية).
وما يمكن ملاحظته عن هذه الإصلاحات أنها جاءت لتدخل على هذا التنظيم القديم بعض التعديلات دون أن تدخل عليه تغييرا جذريا، حيث احتفظت بالمبدأ المعمول به، وهو وحدة المحاكم وازدواجية القانون الذي تم العمل منذ 1913 سنة صدور قانون التنظيم القضائي إلى غاية 1993 سنة صدور القانون المنشئ للمحاكم الإدارية رقم (41.90).
كما أن توزيع الاختصاصات في المادة الإدارية في هذه المرحلة لم تتغير رغم إحداث نوع جديد من المحاكم، وهي محاكم الجماعات والمقاطعات إلا أنها جردت من كل اختصاص في المادة الإدارية، وبذلك بقيت هاته الأخيرة من اختصاص الغرفة الإدارية (في مرحلة النقض والإلغاء) في حين أن باقي المنازعات الإدارية تدخل في اختصاص المحاكم المدنية الابتدائية والاستئنافية.
كما يمكن أن نلاحظ أنه منذ سنة 1957 عند إحداث المجلس الأعلى والمشرع المغربي حاول أن يحدث تمييزا بين المادة المدنية والمادة الإدارية، وهذا ما يتجلى في التطورات التي شهدها كل من القضائين الإداري والمدني كل على حدى.
وما يميز كذلك المادة الإدارية هو ارتباطها بالإدارة –السلطات العامة التي تهدف إلى خدمة الصالح العام-، وبالتالي لا يستوجب مساءلتها مساءلة الأفراد، وبقواعد خاصة، وأمام محاكم عادية بل يجب مساءلتها أمام محاكم متميزة وعلى أساس قواعد القانون الإداري (تماشيا ومهمتها)، وهي بالطبع قواعد القانون العام والمتميزة بعدم التكافؤ بين الأطراف والعلاقات القانونية وذلك تبعا لأهداف ومساعي كل هذه الأطراف.
لكن رغم كل هذا فإن التنظيم القضائي المغربي إلى حدود 1913 ما فتئ يعزز من نظرية وحدة المحاكم وذلك من خلال منحه الاختصاص الإداري كجهاز قضائي واحد ومتسلسل باستثناء قضاء الإلغاء الذي لم يبت فيه أمام المحاكم العادية بصفة متسلسلة بل منح الاختصاص فيه مباشرة بعد إحداثه للغرفة الإدارية.
فقبل أن يدخل التنظيم القضائي المغربي مرحلة القضاء المتخصص كان قد مر –ولفترة طويلة 1913 إلى 1993- من فترة القضاء الموحد لذلك كانت هناك اتجاهات فقهية حاولت تقييم هذه المرحلة بمميزاتها وعيوبها.
فمرحلة القضاء الموحد من جانبها الإيجابي من وجهة نظر بعض الفقهاء "نظام سهل ذو ليونة كبيرة يمكن المتقاضين من معرفة القاضي المتخصص منذ الوهلة الأولى، كما أنه نظام يضمن الاستقلالية الكاملة للقضاء بما فيه القضاء الإداري"( ). 
مما يجعله في وضعية سليمة تمكنه من مراقبة الإدارة بشكل فعال وبالتالي الحد من تعسفها واستبدادها طالما أنها تملك سلطة ذلك. 
من جانبه يرى مجموعة من الفقهاء أن للقضاء الموحد عيوبا من بينها:
• أن الرقابة القضائية للأعمال الإدارية من قبل المحاكم الموحدة وتطبيقها لقواعد القانون الخاص في مساءلة الإدارة يجعل هذه الأخيرة في موطن عدم الفعالية في تحقيق الصالح العام، بالمقابل يكون هناك استهتار بالمصلحة العامة من خلال مساواتها بالمصلحة الخاصة.
• ومن ناحية أخرى فهناك من يصف نظام وحدة المحاكم على أنه نظام معقد وذلك انطلاقا من اعتبارات تطبيقية، فالقاضي الوحيد الذي يبت وفي نفس الوقت في المادة المدنية بكل تشعباتها والمادة الإدارية بكل فروعها والتي تطورت بشكل كبير منذ 1913 وهو ما يطرح على القاضي من صعوبات الإحاطة بكل جزئيات هذه القوانين وهو الشيء الذي دفع هذا الجانب الفقهي إلى الإلحاح على ضرورة خلق قضاء إداري مستقل تختص فيه محاكم إدارية وهو نفس الشيء الذي نهجه المشرع المغربي منذ مطلع التسعينات عندما ظهرت الإرهاصات الأولى لإنشاء المحاكم الإدارية في الخطاب الملكي لسنة 1990 بمناسبة إنشاء المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان وهو الشيء الذي تحقق سنة 1993 بإحداث المحاكم الإدارية لتدخل حيز التنفيذ ابتداء من سنة 1994 ولتضع حدا للمرحلة الأولى من مراحل تطور القضاء الإداري المغربي وهي مرحلة القضاء الموحد.

خاتمة:
وبطبيعة الحال فالقضاء الإداري المغربي لن يقف عند هذه التطورات بل ستلحقه تطورات مهمة طالما أنه لم يكتمل بعد، فرغم إنشاء محاكم الاستئناف الإدارية سنة 2006 إلا أن درجات التقاضي الإداري لم تكتمل بعد وبالتالي فنظام الازدواجية لم يكتمل طالما لم يكن هناك مجلس للدولة المغربي إسوة بالمجلس الدولة الفرنسي أو المصري، كأعلى درجات التقاضي في المادة الإدارية، كما أن من أوجه عدم اكتمال هذه الازدواجية المنشودة هو غياب نص للمسطرة الإدارية طالما أن إجراءات التقاضي الإداري ما زالت يستند إلى ق.م.م المحدث سنة 1974 وبالتالي يتعين على المشرع المغربي خلق قضاء الإداري بكل مميزاته وجوانبه مستقلا عن القضاء المدني كما يتعين عليه أيضا سد باقي الثغرات التي يعرفها القانون الإداري بصفة عامة والقضاء الإداري على وجه الخصوص.

المراجع

ميشيل روسي، المنازعات الإدارية بالمغرب، ترجمة محمد هيري والجيلالي أمزيد.
عبد القادر باينة، القضاء الإداري الأسس العامة والتطور التاريخي، دار توبقال البيضاء 1988.
محمد بن طلحة الدكالي، المحاكم الإدارية بالمغرب.
مليكة الصروخ، القانون الإداري، دراسة مقارنة، الطبعة السابعة.
محاضرات الأستاذ الحسين سرحان في القضاء الإداري.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لـ موسوعة حرة 2022 * 2023 ©